صوت “الغـــار”: حكاية آبائنا، حكاية مدينة وحكاية عملاق

✍️بقلم: أكدال رضوان‎

لم أشكّ يومًا، ولا للحظة واحدة، أن المكتب الشريف للفوسفاط هو المسؤول الأول عن الوضع الذي تعيشه مدينة خريبكة اليوم. نعم، العمال المتعاقبون، بصفتهم ممثلين للسلطة، يتحملون بدورهم مسؤولية كبيرة وتاريخية، وكذلك المنتخبون المحليون، الذين كان من المفترض أن يكونوا صوت المجتمع وتطلعاته. وحتى المجتمع المدني، بصمته في أغلب الأحيان أو تقاعسه، يتحمل جزءًا من هذه المسؤولية. ومع ذلك، يبقى المكتب الشريف للفوسفاط، بموقعه المهيمن وتاريخه الممتد، المحور الأساسي والعائق الأكبر أمام تنمية هذه المدينة.

‏‎عندما أتحدث عن المكتب الشريف للفوسفاط، فإنني أتحدث أيضًا عن جميع هياكله، بما في ذلك جامعة محمد السادس متعددة التخصصات ، التي أصبحت جزءًا من هذا الواقع، وتتحمل نفس المسؤولية. فهي تُدار بميزانيات ضخمة وتلعب دورًا مباشرًا في الالتزامات الاجتماعية والاقتصادية للمجموعة، دون أن تكون قادرة على تحقيق تغيير حقيقي ملموس.

‏‎ما الذي يجعل المكتب الشريف للفوسفاط يتحمل كل هذه المسؤولية؟ السبب ببساطة أن هذه المؤسسة، بدلاً من أن تكون محرّكًا للتغيير والتحرر من قيود الماضي، حافظت على مدينة خريبكة داخل “نظام أناني مغلق”، حيث تُضحي بالمصلحة العامة لصالح المصالح الفردية الضيقة، وتُدار بالقرارات المترددة أو العشوائية. هذا النظام مبني على الخوف: الخوف من زعزعة استقرار اجتماعي يُعتقد أنه هش، والخوف من إثارة غضب الناس. لكن هذا الخوف مبني على تصورات خاطئة، ويُغذي جمودًا يخنق الابتكار ويقتل الطموحات. هذا النهج يذكّرني بنظام الجيش الجزائري، الذي يحافظ على نفسه عبر تغذية صراع وهمي حول الوحدة الترابية المغربية لتبرير وجوده. وبنفس الطريقة، يستمر المكتب الشريف للفوسفاط في إدارة التزاماته الاجتماعية والاقتصادية وحتى البيئية لمدينة خريبكة بخوفه من التغيير، ما يبقي المدينة رهينة الجمود والتردد.

‏‎بالنسبة لي، المكتب الشريف للفوسفاط ليس مجرد مؤسسة اقتصادية. إنه جزء من تاريخي، وتاريخ عائلتي، وخاصة والدي رحمه الله.

‏‎ما زلت أتذكر تلك الصباحات الباردة عندما كان يستعد ليوم عمل جديد في المناجم. كانت حركاته دقيقة، شبه آلية، ولكن خلف ذلك الروتين كان يخفي إيمانًا لا يتزعزع. “نحن لا نفعل هذا لأنفسنا، بل من أجلكم، أنتم أولادنا”، كان يقول لي دائمًا هدا. هذه الكلمات ما زالت ترن في أذني حتى اليوم، تحمل ثقلًا لم أفهمه تمامًا عندما كنت صغيرًا.

‏‎والدي، مثل آلاف العمال الآخرين، ترك قريته الصغيرة في أعالي أزيلال ليلتحق بالمكتب الشريف للفوسفاط. لم يكن ذلك بسبب الراتب فقط، لأن ما كان يجنيه بالكاد يكفي لتغطية احتياجات الأسرة. كان يؤمن بمشروع اجتماعي ومجتمعي. في ذلك الوقت، وعد المكتب الشريف للفوسفاط بأكثر من مجرد وظيفة: وعد بالتعليم، الرعاية الصحية، وحياة كريمة. بالنسبة لشخص قادم من “الدوار”، كان هذا الوعد بمثابة ثورة.

‏‎كل يوم، كان ينزل إلى أعماق الأرض، يعمل تسع ساعات يوميًا لاستخراج الفوسفاط يدويًا. كانت ظروف العمل أشبه بالعبودية الحديثة، لكن والدي والكثير من زملائه واجهوا هذه الظروف بصبر وكرامة، مؤمنين بأن تضحياتهم ستثمر يومًا ما. ومع ذلك، بالنسبة للكثيرين، هذا الوعد لم يتحقق أبدًا.

‏‎عندما أنظر اليوم إلى المشاريع الاجتماعية للمكتب الشريف للفوسفاط، أشعر بحزن عميق. هذه المشاريع، رغم أنها تحمل الأمل عند الإعلان عنها، غالبًا ما تتحول إلى رموز للفشل وسوء التخطيط. تكلف هذه المشاريع ثروات طائلة، وتستهلك موارد هائلة، ولكن تأثيرها على أرض الواقع ضعيف جدًا. لنأخذ مشروع “الحاضنة الصناعية لفابريكا” كمثال. هذا المشروع، الذي كان في الأصل فكرة رائد أعمال محلي (أنا شخصيًا)، لم يكن ليكلف المكتب الشريف للفوسفاط ولا درهما. كان من المخطط أن يدمج ألف مقاول على مدى خمس سنوات، ويخلق منظومة اقتصادية حقيقية. ولكن بدلاً من ذلك، استولت بعض الأطراف الانانية داخل المؤسسة على الفكرة وحوّلتها إلى مشروع باهظ التكاليف وغير فعّال.

‏‎منذ 2018، لم يستفد من “لفابريكا” سوى عشرين شخصًا تقريبًا، رغم أن التكلفة الإجمالية للمشروع تجاوزت 100 مليون درهم. لفهم حجم هذا الهدر، يمكننا قياسه بحياة العطاشة. حياة العطاش تعني 27 عامًا من العمل الشاق، أي 297 شهرًا من استخراج الفوسفاط يدويًا مقابل راتب شهري يبلغ حوالي 2000 درهم. هذا يعادل 648 ألف درهم ما يجنيه العطاش خلال حياته العملية كاملة. بمعنى آخر، كلفت “لافابريكا” ما يعادل 154 حياة عامل.

‏‎هل يمكنكم تخيل ذلك 154 حياة؟ 10,801,680 ساعة من العمل الشاق في أعماق المناجم، وأكثر من 4500 سنة عمل من الجهد. هذه الساعات والسنوات ضاعت في مشروع لم يقدم أي نتيجة تُذكر. هذه الأرقام ليست مجرد إحصائيات. إنها تمثل أرواحًا بشرية، أحلامًا، وتضحيات لا تُقدر بثمن.

‏‎لكن الأمر لا يتوقف هنا. إذا ضربنا هذا الفشل بجميع المشاريع الاجتماعية المماثلة التي أنشأها المكتب الشريف للفوسفاط، ستصبح الأرقام لا تطاق. آلاف الأرواح العمالية أُهدرت، ملايين الساعات من العمل في أكثر الظروف صعوبة، ضاعت في مبادرات بدون تأثير حقيقي. هذه الساعات ليست مجرد وقت؛ إنها حياة آبائنا، ثمرة تضحياتهم. هل تتخيلون؟ مجتمع كامل، أجيال كاملة قدمت عرقها، قوتها، وأحيانًا حياتها، من أجل نتائج محبطة كهذه.

‏‎هذه الأرقام ليست مجرد إحصاءات. إنها أرواح بشرية، أحلام، آمال وتضحيات. إنه إرث آبائنا الذي اختُزل في مشاريع لم تفِ بوعودها ولا التزاماتها. إذا قمنا بحساب جميع المشاريع المشابهة، فإن الفشل سيكون صادمًا. آلاف الأرواح، ملايين الساعات، أجيال بأكملها خُذلت.

‏‎سأستمر في الكلام، الكتابة، والإشارة إلى هذا الوضع، ما لم يتغير شيء. ما لم يتحرك المكتب الشريف للفوسفاط نحو إدارة جديدة، وما لم يستجب لنداءاتنا كأبناء هذه المدينة. هذه ليست كراهية، بل هي حزن عميق ممزوج بإرادة قوية لرؤية مدينتي، مجتمعي، يستعيد السيطرة على تنمية مدينته.

‏‎للمكتب الشريف للفوسفاط، بموارده الغنية وتأثيره الواسع، القدرة على تحويل خريبكة إلى نموذج للتنمية المستدامة والشاملة. ولكن لتحقيق ذلك، يجب أن يكون هناك تغيير في النهج. هذا يبدأ بالاعتراف بإحباطات وآمال السكان المحليين.

‏‎السيد العامل، كممثل لصاحب الجلالة الملك محمد السادس، لديه أيضًا القدرة على التأثير في هذا التغيير، وإطلاق ديناميكية جديدة لتوحيد الجهود. هذا يتطلب إرادة قوية، تخطيطًا استراتيجيًا جريئًا، وأفعالًا ملموسة وقابلة للقياس.

‏‎خريبكة تستحق الأفضل، وشبابها وأطفالها يستحقون مستقبلاً يليق بتضحيات آبائهم وأجدادهم. لا يمكننا أن نظل أسرى لوعود جوفاء أو مبادرات فاقدة للصلة بواقعنا المحلي. حان الوقت لنعيد بناء الثقة، لنجعل الأمل نبراسًا، ولنتحول من الإحباط إلى العمل الجاد الملموس. خريبكة ليست مجرد مدينة، إنها إرث وتاريخ، وهي تستحق أن تكون نموذجًا للتنمية الحقيقية التي تُلبي طموحات أبنائها وتكرّم جهود ماضيها

Copyright © 2024