بقلم: ذ المعانيد الشرقي ناجي (*)
صحيحٌ أن الأطفال يطرحون عادة أسئلة بمواصفات السؤال العام الفلسفي، يقول المتنبي: وليس يصح في الأذهان شيء = إذا احتاج النهار إلى ذليل. فكلمة النهار واضحة وضوح النهار نفسه، لكن عندما نطرح السؤال، ما النهار؟ حين ذلك تنتصب الشكوك في وضوح هذا النهار ذاته. وهو في نفس الآن سؤال طرحه الأطفال مراراً …..
بل أكثر من ذلك أن في وسعنا أن نطرح السؤال جميعا على هذه الشاكلة: هل هذا الوقت وقت نهار حقا؟ ومن ثمة نكون مضطرين للبحث عن دليل وهو أمر طبيعي عند الفيلسوف بحيث يريد إقناع خصومه ومن يتلقون خطابه بالبحث لهم عن دليل و حجة دامغة، بحيث يصبح هذا نهار وليس ليل …فنتساءل ما علامة النهار ؟ وما علامة الليل؟ هل هي ظهور الشمس؟ ولكن ألا يختفي عن أنظارنا ذلك الكوكب المضيء في حالة كسوفه؟ أو حين تتلبد السماء بالغيوم؟ أو حين دخولنا كهفا مظلما؟ ومع ذلك نعلم بأن ذلك الوقت وقت نهار، وقد يقول بعضهم إن النهار وقت اليقظة، والليل وقت النوم. ولكن ألا ننام حتى في النهار؟ ونستيقظ في الليل لساعات طويلة، ومع ذلك نبقى متيقنين بأن الوقت الذي نمنا فيه هو وقت نهار، وأن تلك الساعات الطوال التي كنا فيها يقظين مستيقظين هي جزء من الليل؟ ألا يشتغل كثير من العمال ليلا وينامون نهارا؟ من هنا نستنتج بأن مقاييس كهذه ( الشمس اختفاؤها، اليقظة، النوم…) لا تصلح للحكم على أن هذا وقت نهار أو ليل. وتبعا لذلك ستبقى الأسئلة تتناسل إلى ما لا نهاية ، وهكذا فالفلسفة بحث مستمر عن الحقيقة ، وهي تساؤل مستمر كما قال “كارل ياسبيرز” ( إن الأهم في الفلسفة السؤال، ويجب أن يتحول كل جواب إلى سؤال من جديد.). فما حقيقة النهار؟ وما حقيقة الليل؟
تجد هذه الأسئلة مبرراتها في كون الوجود مطبوع بالتغير على الدوام، و ما يشكل هذا التغير هو أن الكون لا يستقر على حال واحد، لذلك قال حينها هيراقليدس الفيلسوف اليوناني: ” إنك لا تستطيع أن تسبح في النهر مرتين، لأن مياه أخرى ستغمرك من جديد.” هكذا فالإنسان لا يستطيع مع هذا التغير أن يدرك تمظهرات العالم في كل لحظة يلحقه التغير، لذلك فالتفكير هو الخاصية التي يجب على الإنسان العمل بها في فك ألغاز هذا الوجود على الدوام، من خلال رسم مسارات للفكر، فكما قال هيدجر أن نفكر، هو أن لا نحوم حول الفلسفة، بل أن نتوغل داخلها ونرسم مسارات لفكرنا، وعلى الفيلسوف أن يصغي لنداء الوجود، فلما يصغي له بكيفية جيدة يأتي صوبه كحضور، إنها الغابة السوداء التي تخيفنا دائما من خلال تشابك خيوطها والتواء طرقها.
هكذا كان يقول حينها هيدجر، أن تفكر فأنت داخل الفلسفة، وعندما تبتعد عن التفكير فاعلم أنك خارجها. أما السؤال الكبير الذي حيره ويجد موطنه داخل حقل الميتافيزيقا وبالتحديد سؤال نسيان الوجود، عم نسأل في حقيقة الأمر؟ لماذا الوجود بما هو كذلك؟. نحن نبحث، في الواقع، عن الأساس الذي يجعل الوجود يوجد، وعن ماذا يكون هذا الوجود؟ وعن الأمر الذي لم يكن بالأحرى لا شئ ؟ إننا نتساءل ، في العمق، عن الوجود. لكن كيف ؟ إننا نتساءل عن وجود الموجود، نتساءل عن الموجود بخصوص وجوده (…) وبالتالي، نصل إلى النتيجة التالية: “لماذا كان ثمة موجود ولم يكن بالأحرى لا شئ ؟ يُجبرنا على وضع السؤال الأولي: “ماذا عن الوجود؟”
وهكذا، نستنتج مع هيدجر أن السؤال: “ماذا عن الوجود؟” هو سؤال متضمن في السؤال : “لماذا كان ثمة وجود ولم يكن بالأحرى لاشئ؟”. غير أنه لم يكن يهدف هيدجر إلى دراسة هذه المواضيع من أجلها في حد ذاتها، بل كان هدفه البحث في مفهوم “الوجود”، الذي وقع في النسيان، بغرض انتشاله من الخسارة والاغتراب، في زمن المحنة، للوصول إلى هدف أسمى، ألا وهو إعادة تأسيس الميتافيزيقا.
Copyright © 2024