✍ أمكار عصام
في زمنٍ تُسرق فيه الأفكار كما تُقلَّد فيها المشاريع، يظن البعض أن التشبث بالشكل كافٍ لإثبات الجدارة أو التأثير، لكن الحقيقة التي تصمد أمام الزمن والتاريخ، هي أن جوهر الفكرة لا يمكن نسخه، والمضمون لا يُنتَحل، لأنه ببساطة يتجلّى في لحظة التنفيذ، حيث يسقط القناع عن المستعرضين ويُكشَف من يتقن العمق ومن يسبح على السطح .
هذا الأمر يبدو جليًّا حين نتأمل طريقة التعامل مع “الأرشيف”. فالأرشيف ليس مجرد رُزَمٍ من الأوراق، ولا ملفات مرصوصة في رفوف مظلمة، بل هو سجل حيّ لسياقات زمنية معينة أنتجت تلك الوثائق لذا، فإن التعامل مع الأرشيف لا يمكن أن يكون ممارسة بيروقراطية، بل هو فعل ثقافي، سياسي، وأخلاقي، فمعرفة السياق الذي نشأت فيه الوثائق يتطلب مؤهلات دقيقة، وقدرة على الربط والتحليل والتركيب، لا تتوفر إلا لمن يملك تكوينًا معرفيًا حقيقيًا، وحسًا تاريخيًا صادقًا .
من هنا نفهم أن كل استعراضات جوفاء، أو محاولات لاستخدام الأرشيف لأغراض دعائية أو تجميلية، لا يمكن أن تُحدِث الأثر المنشود كما تحدده الأمانة التاريخية، فالأمانة التاريخية ليست ذاتية، لكنها التزام صارم بتحرّي الحقيقة، وفهم تداخل الرمزي بالواقعي، وعدم السقوط في اختزالات قاتلة .
ولعل أبرز مثال على هذا الخلط، هو ما حدث في خطاب الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون في البرلمان المغربي، حين استحضر رغبة السلطان مولاي إسماعيل في المصاهرة مع لويس الرابع عشر، فقد بدا أن الرئيس الفرنسي يتحدث عن الأمر كحدث واقعي خالص، في حين أن رغبة السلطان لم تكن سوى صيغة رمزية لاختبار استعداد فرنسا للدخول في علاقة استراتيجية مع المغرب . وبذلك، فإن إساءة فهم الرمزي وتحويله إلى واقعي يفتح الباب أمام سوء تأويل للتاريخ، بل وأحيانًا تزويره بشكل غير مباشر .
هذا الخلط بين الرمزية والواقع لا يقتصر على هذه الحادثة فحسب، بل هو سمة متكررة في كثير من مناحي الحياة السياسية والثقافية، ففي الوقت الذي تحتاج فيه العلاقات بين المغرب وفرنسا إلى إعادة بناء على أسس صلبة من الاحترام المتبادل والتكامل، نجد أن الجهد المبذول من الطرفين لا يزال غير كافٍ، وكأن العلاقة تُدار بمنطق العلاقات العامة، لا بمنطق الشراكة التاريخية ذات الامتداد الحضاري .
ولكي نكون منصفين، فإن المسؤولية لا تقع على طرف دون الآخر، فالمطلوب اليوم هو جهود مضاعفة من قبل المسؤولين المغاربة والفرنسيين، من أجل تجاوز العوائق النفسية والسياسية التي تحول دون التقدم في العلاقات الثنائية، لأننا بحاجة إلى تجاوز الصور النمطية، والتصالح مع الذاكرة المشتركة بما فيها من ألم ومجد، احتلال وتعاون، صراع وتفاهم .
ومن بين المفارقات العجيبة، أن هناك كفاءات مغربية عالية التأهيل، قادرة على تقديم قراءات عميقة للأرشيف، وإنتاج معرفة رصينة، لكنها تُقصى بشكل ممنهج أو تُهمَّش بدعوى أنها غير منخرطة في “الدوائر الرسمية” أو لا تُجيد فن العلاقات، وكأن الكفاءة أصبحت عائقًا بدل أن تكون رصيدًا ! إنها مفارقة قديمة جديدة، تكشف عن خلل في منظومة القيم، وتفضيل الولاء على الكفاءة .
وفي المقابل، لا يمكننا إغفال أن هناك وعيًا يتنامى لدى شرائح واسعة من المجتمع، خاصة بين الباحثين الشباب، بأهمية استرجاع الأرشيف وتحليله واستثماره في إعادة كتابة التاريخ، لا من باب الانتقام الرمزي، بل من باب التصالح مع الذات، لإن استعادة الأرشيف ليست هدفًا في حد ذاته، بل وسيلة لفهم الماضي حتى لا نُكرّر أخطاءه، واستشراف المستقبل على أسس راسخة .
ولذلك، فإن الرهان الحقيقي اليوم هو على مشروع ثقافي متكامل، لا يفصل بين الأرشيف والهوية، ولا بين التاريخ والسيادة، ولا بين الرمز والسياسة، مشروع يتجاوز النظرة الفولكلورية إلى التراث، ويجعل من الذاكرة أداة للتحرر لا للارتهان في الماضي .
وفي هذا السياق، ينبغي أن يتحمل المثقف دوره في النقد والتوجيه، وألا يكتفي بدور الملاحظ الصامت أو المتفرج الغاضب، كما أن على النخب السياسية أن تُراجع آليات اشتغالها، وتُفسح المجال أمام كفاءات حقيقية قادرة على التفكير الاستراتيجي، بعيدًا عن الولاءات الضيقة والحسابات الانتخابية قصيرة المدى .
إن العلاقة بين المغرب وفرنسا ليست علاقة عابرة، ولا يمكن حصرها في مجاملات دبلوماسية، إنها علاقة تعكس قرونًا من التفاعل، ويجب أن تُبنى على الصراحة والندية والمعرفة الدقيقة بالتاريخ، ومن دون هذا الفهم العميق، فإن أي خطاب، مهما كان بليغًا، سيظل مجرد شكل بلا مضمون .
في النهاية قد يستطيع البعض سرقة شكل الفكرة، تقليد مظهرها، لكنهم لا يستطيعون الوصول إلى جوهرها، لأن الجوهر يحتاج إلى رؤية، وصدق، وتفانٍ في الفهم والتنفيذ، وهذا ما نحتاجه اليوم : أن نتحرر من عبودية الشكل، ونسترجع سيادتنا على مضاميننا.
Copyright © 2024