أمكار عصام يكتب “فخّ الهويات في زمن العولمة” : قراءة في مشروع حسن أوريد الفكري 

أمكار عصام

في عالمٍ تتسارع فيه التحولات الاقتصادية، وتتعاظم التوترات الجيوسياسية، يبرز خطاب الهوية بوصفه أحد أكثر الخطابات إثارة للجدل، وتفجيرًا للصراعات، في هذا السياق المضطرب، يطل علينا المفكر المغربي حسن أوريد بعمله الفكري الفريد وغير المسبوق “فخ الهوّيات”، ليضيء مسالك هذا الخطاب، كاشفًا عن مشروعيته وزيغه، مقدّمًا قراءة نقدية موضوعية لواقع مأزوم، ومفتوح على احتمالات الانفجار .

منذ انهيار السردية الشيوعية، التي كانت تشكّل قطبًا ناظمًا للصراعات والتحالفات الدولية، بدأت الهويات تأخذ موقع الصدارة بدلًا من الطبقات، وغزت الثقافة مواقع الاقتصاد، وغدا طلب الاعتراف هو العنوان العريض لتطلعات الجماعات والأفراد، غير أن هذا الطلب وإن كان مشروعًا في جوهره، عرف انحرافات خطيرة، أفضت إلى تفكك النسيج المجتمعي، وتهديد وحدة الدول، وتفاقم خطاب الكراهية هنا، ينبّه حسن أوريد إلى مفارقة موجعة : ما كان يُراد له أن يكون حلًا، أضحى مشكلًا في ذاته .

يتميّز كتاب “فخ الهوّيات” بجرأته الفكرية، فهو لا يكتفي بوصف الأزمة، بل يسبح في عمقها، مستجليًا أصولها الفكرية والتاريخية، محاولًا التوفيق بين ما يبدو متناقضًا : الخصوصية والعالمية، الانتماء والمواطنة، الذات والآخر، ويطرح أسئلة عميقة : كيف نوفّق بين طلب الاعتراف الهوياتي ومقتضيات المواطنة الجامعة؟ وكيف نحقّق عدالة رمزية تحفظ لكل مكون مجتمعي كرامته، دون السقوط في فخ الإقصاء المتبادل ؟

في تناول هذه الإشكالات، لا ينحاز أوريد إلى خطاب معيّن، بل يجنح إلى التحليل المتجرد والموضوعي المدعوم بالمعرفة الواسعة والإحاطة الفلسفية، ويبدو عمله أقرب إلى كد في “الأنثروبولوجيا السياسية” منه إلى خطاب أيديولوجي، فهو لا يتردّد في الإشارة إلى أن الهويات الضيقة، سواء كانت دينية أو قومية أو ثقافية، قد تتحوّل إلى أدوات للتجييش والاستقطاب، بدل أن تكون موارد للتنوع والإغناء .

يُسجّل أوريد بمرارة لاذعة أن الخطابات الهوياتية في الغرب لاسيما في أوروبا، لم تعد تقتصر على الدفاع عن الخصوصيات، بل غدت ستارًا يخفي قلقًا وجوديًا، وتجليًا لاضطرابات عميقة، فاحتدام الجدل بين الأصليين والوافدين، لا سيما من المهاجرين المسلمين، يكشف أن مشكل الهوية هو الجانب الظاهر لأزمة بنيوية معقدة، تتعلق بسقوط منظومات القيم، وتراجع مصداقية الدولة، وتحوّل الديمقراطية إلى مجرد واجهة فقط .

في المقابل لا يُعفي أوريد العالم العربي من مسؤولية الوقوع في فخ الهوية، إذ يرى أن المجتمعات العربية، بدورها، تعاني من نزعة اختزالية، تجعل من الدين أو العرق أو الطائفة مرجعية وحيدة لتعريف الذات، وهذا الانغلاق الهوياتي يؤدي إلى دوامة من الصراع، والانقسام، والتشظي الداخلي، وهو ما شهدناه في موجات العنف الطائفي، والتطرف الديني، والصراعات الإثنية في أكثر من بلد عربي .

وما يميز حسن أوريد هو أنه لا يكتفي بتشخيص الأزمة، بل ينفتح على أفق الحل، فهو يدعو إلى تجاوز النظرة الأحادية للهوية، والنظر إليها باعتبارها بناءً ديناميًا، يتشكّل ويتجدّد في التفاعل مع الآخر، كما يدعو إلى إعادة تعريف المواطنة لا بوصفها انتماءً قانونيًا فحسب، بل باعتبارها عقدًا رمزيًا وأخلاقيًا، يُعترف فيه بالجميع على قدم المساواة، ويراعى فيه التوزيع المنصف للأوسمة والاعترافات .

في هذا السياق يقدّم أوريد مفاهيم كبرى لفهم تحوّلات العالم المعاصر : الإسلاموفوبيا كأداة لإنتاج الخوف، والعدو الحميم الذي لا تكتمل الهوية إلا بنفيه، و”الاستبدال الكبير” بوصفه هاجسًا يحرّك اليمين المتطرف، والمجتمع الأرخبيلي الذي يشير إلى التمزق الاجتماعي داخل الدول الغربية، وصولًا إلى كبش الفداء الضروري الذي تُلقى عليه أوزار الأزمات .

ويلاحظ القارئ، وهو يتقدم في فصول الكتاب، أن حسن أوريد لا يُسائل خطاب الهوية فقط، بل يُفكّك بنيته، ويُظهر علاقته بالسلطة، والذاكرة، والصراع . فالهويات كما يرى لا تنشأ في الفراغ، بل تُنتجها السرديات الكبرى، وتُوظّفها الأنظمة السياسية، وتُستدعى في لحظات التأزيم لإعادة ترتيب الفضاءات الاجتماعية .

وعبر لغة رصينة، وأسلوب رفيع، وقدرة تحليلية استثنائية، يمضي الكاتب في تقديم عمل فكري متماسك، يزاوج بين الحس الفلسفي، والعمق التاريخي، والوعي السياسي . ومن هنا فإن كتاب “فخ الهوّيات” ليس مجرد تأمل في قضية راهنة، بل هو مشروع فكري متكامل، يطرح القضايا المصيرية، ويقترح دروبًا بديلة لفهم الذات والعالم .

ختامًا، يمكن القول بكل موضوعية إن عمل حسن أوريد في هذا الكتاب يعد من أبرز الإسهامات الفكرية العربية المعاصرة في تناول إشكالية الهوية، فهو كتاب لا يكتفي بالإجابة عن الأسئلة، بل يوسّع أفق التفكير فيها، عملٌ فكريّ رفيع، يجدر أن يُقرأ، ويُناقش، ويُدرّس، في زمنٍ تتهدد فيه المجتمعات أشكال جديدة من الانغلاق، ويغدو فيه التفكير النقدي ضرورة وجودية .

“فخ الهوّيات” ليس مجرد كتاب، بل هو دعوة للانفتاح والقبول بالتنوع، وتشجيع على العيش معًا بسلام، في عالم يحتاج أكثر من أي وقت مضى إلى بناء جسور بين الناس بدلاً من الجدران، وإلى الاعتراف بالآخر بدلاً من إقصائه، وإلى التفاعل بدلًا من الانغلاق وفي هذا السياق يعيد الكتاب للثقافة مكانتها الحقيقية : أن تكون نورًا ينير الطريق للناس في زمن مليء بالتحديات.

Copyright © 2024