عصام أمكار يكتب .. أين توقف الزمن السياسي المغربي 

أمكار عصام

بكل تأمل وتمعن، يطرح سؤال الزمن السياسي المغربي نفسه بإلحاح كبير : لماذا يبدو أن عقارب هذا الزمن توقفت في لحظة بعينها، وكأنها عاجزة عن مواكبة التحولات التي شهدها العالم والمنطقة؟ متى تجمد هذا الزمن؟ ولماذا لم تثمر كل التحولات التي عرفها المغرب منذ نهاية التسعينيات عن معادلة سياسية جديدة توازي مكانته الجغرافية والاستراتيجية؟ للإجابة عن هذا السؤال، لا يمكن القفز على محطتين أساسيتين : سنة 1999، حيث عرف المغرب انتقالاً ملكياً سلساً طبعته لحظة إعفاء إدريس البصري، وسنة 2002 التي شهدت أول امتحان سياسي حقيقي للعهد الجديد في لحظة انتخابية مفصلية .

في سنة 1999 دخل المغرب مرحلة جديدة، حيث ودع حقبة طويلة من التدبير الأمني المباشر الذي كان يمثله إدريس البصري، وانتقل إلى نمط مختلف من التسيير السياسي يقوم على الانفتاح والبحث عن صيغة توافقية بين المؤسسة الملكية والقوى السياسية ومع ذلك، فإن إعفاء البصري الذي اعتُبر حينها خطوة شجاعة نحو الإصلاح، لم يصاحبه تفكيك كامل للأجهزة والآليات التي راكمها، بل استمر تيار غير مرئي في التأثير على مسار اللعبة السياسية من خلف الستار، هذا التيار لم ينتهِ بل أعاد ترتيب أدواره، وفتح المجال لفاعلين جدد، كان من أبرزهم التيار الإسلامي الذي وجد في هذا التحول فرصة للانتقال من موقع المعارضة الجذرية إلى موقع الشريك السياسي، في سياق انتقال لم يكن مؤطراً بعدُ برؤية مجتمعية واضحة أو تعاقد سياسي متكامل .

ثم جاءت محطة 2002، حيث أجريت أول انتخابات برلمانية في العهد الجديد، واختبر المغرب أولى تجاربه في تشكيل حكومة بقيادة أحد أبناء الحركة الوطنية، في إشارة إلى نية التأسيس لتوافق جديد بين المؤسسة الملكية والنخب السياسية، لكن سرعان ما اتضح أن هذا التوافق كان هشاً، قائماً على توازنات حذرة أكثر منه على مشروع سياسي واضح، لم يكن هناك حسم انتقالي، بل ترتيب سطحي لمشهد سياسي تتجاذبه الولاءات التقليدية والطموحات الإصلاحية المحدودة، ولم تُطرح في تلك اللحظة الأسئلة العميقة : هل المغرب بصدد بناء تعاقد سياسي صلب قادر على مواجهة تحديات الداخل والخارج، أم أننا أمام استمرار لمنطق تدبير التعددية بشكل ظرفي وانتقائي؟

المشكلة أن النخب الحاكمة والمعارضة على السواء لم تمتلك حينها شجاعة الاعتراف بأنها عاجزة عن بلورة معادلة سياسية تستوعب المكانة الجيوسياسية للمغرب كبلد متوسطي، إفريقي، أطلسي، ومغاربي، لا يمكن الحديث عن أي مشروع وحدوي مغاربي دونه، فالرهان على بناء توافق وطني حقيقي يأخذ بعين الاعتبار تحولات المجتمع المغربي ومتطلبات التنمية، وموقع المغرب الإقليمي ظل مؤجلاً باستمرار، إما بسبب حسابات ظرفية، أو نتيجة الخوف من المجهول، أو تحت ضغط شبكات المصالح التي شكلها البصري وغيره .

وهكذا فإن الزمن السياسي المغربي توقف فعلياً عند لحظة 1999، صحيح أن الزمن الاقتصادي والاجتماعي عرف دينامية لا بأس بها، وأن المغرب عزز حضوره الدولي، وانخرط في مشاريع كبرى، لكن الزمن السياسي بمعناه العميق، كإرادة للتجديد في قواعد الحكم والتعاقد المجتمعي، ظل أسير لحظة انتظار لم يأتِ بعدها جديد . والنتيجة هي استمرار نفس الأسئلة : من يحدد مستقبل المغرب السياسي؟ ومن يمتلك الشجاعة لوضع حد لهذا التردد التاريخي؟
لقد توقف الزمن السياسي المغربي أيضا في 2002 ،لا بإرادة طرف من الاطراف، بل بفعل غياب إرادة مشتركة عند جميع الأطراف، وتوقف الأزمنة السياسية من الامور العادية في السياقات السياسية، لكن غير العادي هو عدم اعتبار التوقف توقفا، وعدم تحمل مسؤولية التوقف من طرف الجميع، مما جعل رهان التوافق الوطني رهانات اكبر من الجميع .
طبعا كان هناك تنصل من واجب تقييم المراحل السابقة بدعوى أن الماضي فات، وأن طرفا قادرا بهذا الفوات الوهمي أن يواجه تحديات المرحلة الجديدة والعصر الجديد .
وافتقدت الساحة المحاورين الكبار الذين يبحثون عن الحلول أينما كانت، والذين يسمون التواضع شجاعة، ويتشاءمون من إقصاء الاخرين، ولا ينسون أن المغاربة هم شعب وادي المخازن وعشرين غشت والمسيرة الخضراء، قد يختلفون مع النظام، لكنهم دائمو الاعتقاد بأن الدولة المغربية هي دولة جميع المغاربة، مهما كان تقييمهم لأداء النظام .

إن قراءة هذا التوقف الزمني لا تكتمل دون الإشارة إلى غياب استراتيجية الحسم الانتقالي، إذ أن الانتقال السياسي الحقيقي لا يتحقق فقط بإبعاد وجوه أو تغيير أسماء، بل ببناء تعاقدات سياسية واضحة، تستند إلى تفاهمات صلبة لا تقبل التأويل أو التراجع أمام أول اختبار، غير أن الذي حصل هو أن المغرب دخل في توافق هش، يكاد يكون مؤقتاً بطبيعته، لأنه لم يقم على إرادة جماعية حاسمة، بل على ترتيبات بين أطراف لم تكن كلها مقتنعة بضرورته أو بجدواه، لذلك كان هذا التوافق عرضة للاهتزاز كلما ظهرت تحديات أو أزمات جديدة .

ما بين 1999 و 2002، كان المغرب في حاجة إلى معادلة سياسية جديدة، قوامها الاعتراف المتبادل بين الدولة والمجتمع، بين الملكية والنخب السياسية، بأن المرحلة الجديدة تتطلب أدوات جديدة، لا مجرد تعديل في آليات التسيير، لكن الذي حصل هو أن النخبة السياسية، سواء تلك التي في الحكم أو في المعارضة، لم تمتلك الجرأة الكافية لمواجهة هذا السؤال : ماذا نريد للمغرب في القرن الحادي والعشرين؟ هل نريد استمرار نفس المنطق التدبيري المحافظ، أم نريد مغرباً قادراً على لعب دور إقليمي ودولي يوازي موقعه الجغرافي والتاريخي؟

إن التحديات التي واجهها المغرب منذ مطلع الألفية الجديدة، سواء على مستوى صراعات الجوار المغاربي، أو تقلبات السوق العالمية، أو تطورات القضية الوطنية، أو التحولات الاجتماعية الداخلية، كشفت محدودية هذا التوافق الهش، فكلما ظهرت أزمة كان يظهر معها غياب رؤية موحدة بين الفاعلين الأساسيين، وغياب الإرادة السياسية الجماعية لبناء مشروع مشترك يتجاوز الحسابات الظرفية .

اليوم، وبعد مرور أكثر من عقدين على لحظة 1999، يبدو أن المغرب في أمس الحاجة إلى معادلة سياسية جديدة لا تلتفت إلى الوراء، بل تستحضر رهانات الحاضر والمستقبل . معادلة تعترف بأن زمن التوافقات الهشة قد انتهى، وأن التحديات التي يواجهها المغرب اليوم، من التحولات التكنولوجية إلى التحديات البيئية والأمنية والجيوسياسية، أكبر من الدولة والمجتمع مجتمعَين إذا لم يعملا معاً في إطار تعاقد صلب وواضح .

لكن هذه المعادلة الجديدة لن تُبنى إلا بشجاعة الحكماء، الذين يمتلكون من النضج السياسي ما يجعلهم يعترفون أولاً بأن الزمن السياسي المغربي توقف فعلاً، وأن المطلوب اليوم ليس ترقيعاً في المشهد السياسي أو تعديلاً في المواقع، بل إعادة صياغة كاملة لقواعد اللعبة السياسية، بشكل يجعل المغرب قادراً على مواجهة المستقبل بثقة ووضوح .

إن المعركة الحقيقية ليست بين الدولة والمجتمع، ولا بين الملكية والنخب، بل بين من يريد إبقاء المغرب رهينة توافق هش يخدم مصالح ظرفية، ومن يؤمن بضرورة بناء توافق صلب لا يهتز أمام الأزمات، توافق قائم على الوضوح، والاعتراف المتبادل، والشجاعة في مواجهة الأسئلة المؤجلة منذ 1999 .

بهذا المعنى، يصبح السؤال عن توقف الزمن السياسي المغربي ليس مجرد اجترار لماضٍ ولى، بل دعوة لكتابة صفحة جديدة في تاريخ المغرب السياسي، صفحة تتجاوز منطق التدبير اليومي، نحو رؤية استراتيجية تجعل من المغرب لاعباً حقيقياً في محيطه، لا مجرد ساحة لصراعات إقليمية أو رهانات دولية .
لا أحد استفاد من التوافق الهش، بل تضرر منه من اعتمدوا هندسة تعود إلى ما قبل إعفاء البصري، وحتى الإسلاميون الذين توهموا تمكنهم من مهام حكومية، لم ينتبهوا أنها مهام داخل مربعات قديمة، وأن أوهامهم ناتجة عن طموح سياسي منخفض السقف، وبقي الماضي الذي لم يفت في حاضر يتفتت دون اتساق مستقبلي .

إن لحظة الحسم لم تعد خياراً مؤجلاً، بل ضرورة وجودية لمغرب يريد أن يبقى في قلب الزمن، لا على هامشه .

Copyright © 2024