✍ أمكار عصام
في جريدة “نيشان” المحترمة نُشر مقال حاول أن يرسم صورة قاتمة عن الوالي سعيد أمزازي، متهمًا إياه بتجسيد “زمن الرصاص” وبأنه أضاع بوصلة التدبير، لكن من الواجب أن يكون النقاش موضوعيًا بعيدًا عن لغة التهييج، من أجل إنصاف رجل لم يدّخر جهدًا في خدمة الوطن من موقعه الأكاديمي والسياسي والإداري .
فالإنصاف يقتضي أن نزن الأمور بميزان الحقيقة لا العاطفة، وأن نفصل بين الشخص وواقع قطاع الصحة الذي يعاني منذ عقود، فالتاريخ يفند المغالطات، لكنه ينصف دائمًا أصحاب البصمات الصادقة .
أول ما يلفت النظر أن ربط اسم أمزازي بسنوات الرصاص مجانب للصواب ومبالغة في غير محلها، الرجل ابن الجامعة المغربية، ابن الحوار والبحث والتكوين، لا ابن العنف أو القمع، سيرته في الحقل الأكاديمي ووزارة التربية الوطنية شاهدة على اختياراته الإصلاحية التي سعت دائمًا إلى تحسين صورة المدرسة العمومية لا إلى إضعافها .
ومن الظلم أن نقارن بين رجل اهتم بالعلم والفكر وبين زمن اتسم بالقمع وانسداد الأفق . فشتان بين من يؤمن بالكلمة أداةً للإصلاح، وبين من يستعمل العصا لإسكات الأصوات .
أما الحديث عن فترة عطالة عاشها بين الوزارة وتعيينه واليًا، فلا يمكن اعتباره عيبًا ولا سُبّة . بل على العكس، كل من يخدم وطنه يحتاج إلى فسحة راحة يلتقط فيها أنفاسه، أفلا نجد والدك ووالدي بعد سنوات عمل متواصلة يحصلان على التقاعد ليستريحا من عناء المسؤولية ؟ أليس ذلك حقًا مشروعًا بعد عطاء طويل ؟
بل إن فترات الراحة كثيرًا ما تكون مساحة للتأمل واستعادة النشاط، حتى يعود المرء إلى الخدمة بطاقة أكبر وعزيمة أقوى، فالعبرة ليست بالفراغ بين المهمات، بل بما أنجزه الإنسان خلالها وبعدها .
فيما يخص وقفة مستشفى الحسن الثاني، الحقيقة أن الشعارات رفعت بحرية كاملة، وتابعتها وسائل الإعلام مباشرة، وهذا دليل قاطع على أن الوالي لم يمنعها، بل ترك الفضاء مفتوحًا للتعبير السلمي، فلو كان كما صُوِّر لكان المنع هو العنوان من البداية، لكن الواقع أثبت عكس ذلك .
بل إن وجود الوقفة وما رافقها من صور وشعارات متداولة على نطاق واسع أكبر برهان على أن الحق في التعبير مكفول . والوالي في النهاية ليس خصمًا للمواطنين، بل هو مؤتمن على تأطيرهم وضمان سلمية حركاتهم .
والأدهى من ذلك أن المقال رمى أمزازي باتهام “زرع الأزمات” في قطاع التعليم حين كان وزيرًا، والحال أن التاريخ يشهد بأنه كان صاحب مبادرات إصلاحية مهمة، من بينها إخراج القانون الإطار للتربية والتكوين، وإطلاق برامج لتأهيل التكوين المهني، وتعزيز مكانة الجامعة المغربية على المستوى الدولي . قد يختلف البعض حول تفاصيل بعض القرارات، لكن لا أحد يمكنه إنكار أن بصمته الإصلاحية كانت واضحة بجلاء .
ولو كان فعلاً صانع أزمات، لما استطاع أن يمرر إصلاحات كبرى عبر البرلمان بتوافق وطني واسع، الفرق شاسع بين من يخطئ بحكم طبيعة المسؤولية، وبين من يتعمّد خلق الأزمات .
كما أن احتجاجه الشخصي على رسوم مدرسة فرنسية لتدريس بناته لا يُمكن تأويله على أنه تناقض أو ازدواجية، بل بالعكس، هو حق مشروع لأي مواطن مغربي كيفما كان منصبه، فالمسؤولية لا تعني التخلي عن حقوق الإنسان الطبيعية، بل تعني صونها وتحصينها .
والذين انتقدوا احتجاجه تناسوا أن الدفاع عن الحق مشروع في جميع الأحوال، وأن المنصب لا يلغي إنسانية الإنسان، فالمواطن يبقى مواطنًا، سواء كان أستاذًا أو وزيرًا أو واليًا .
إن شخصية أمزازي لم تغيّرها المناصب ولا الألقاب، فهو الرجل ذاته الذي عرفه طلابه وزملاؤه في الجامعة، بنفس البساطة والتواضع، وبنفس الانفتاح على الحوار .
وهذا ما يفسر حجم الاحترام الذي يكنّه له أساتذة الجامعة والباحثون الذين عملوا معه عن قرب، فالجوهر الحقيقي للشخص يُقاس بما يقوله عنه رفاق الدرب لا بما يروّج له الخصوم .
وإنصافًا للحقيقة، سعيد أمزازي لم يكن يومًا رجل صدام، بل رجل مؤسسات يؤمن بالشرعية المؤسساتية والقانون، وقراراته دومًا تنطلق من واجب المصلحة العامة، لا من نزعة شخصية أو رغبة في استعراض السلطة .
وحتى حين يُنتقد، فإن النقد لا يُغيّر من ثوابت شخصيته المبنية على خدمة الصالح العام،
فالذي يقرأ مساره يكتشف رجل توافق لا رجل مواجهة .
والأهم من كل ذلك أن النقاش الحقيقي يجب أن يظل موجّهًا نحو جوهر الأزمة الصحية، بعيدًا عن شيطنة الأشخاص . المستشفيات العمومية في حاجة إلى إصلاح شامل يقتلع جذور الفساد، لا إلى تعليق الفشل على أسماء بعينها .
فالمشكل أعقد من أن يُختزل في شخص أو اثنين، بل هو ورش وطني يتطلب تضافر جهود الجميع : حكومة، برلمان، مجتمع مدني …
وإذا كان من حق الصحافة أن تنتقد، فمن واجبها أيضًا أن تُنصِف، وأمزازي الذي خدم وطنه في الجامعة، في الوزارة، واليوم في الولاية، يظل نموذجًا لرجل دولة اجتهد ولكل مجتهد نصيب، لكنه لم يتنكر يومًا لجذوره ولا لقيمه الأصيلة التي تربى عليها .
فالعدل لا يقوم على جلد الأشخاص، بل على الاعتراف بفضلهم في ما أنجزوه، وإنصافهم في ما قصّروا فيه .
يقول زهير بن أبي سلمى
وَمَهما تَكُن عِندَ اِمرِئٍ مِن خَليقَةٍ
وَإِن خالَها تَخفى عَلى الناسِ تُعلَمِ
Copyright © 2024