أشرف لكنيزي-
تعيش مدينة خريبكة هذه الأيام حالة من التحول الصادم، حيث لم يعد المشهد الحضري مألوفا لدى زوارها، خاصة أفراد الجالية المغربية المقيمة بالخارج، الذين توافدوا هذا الأسبوع لقضاء عطلتهم الصيفية رفقة أسرهم، وقد أعرب العديد منهم، ممن تربطني بهم علاقات قرابة وصداقة، عن اندهاشهم من المظاهر “البداوة” المتزايدة في الفضاءات العامة، متسائلين بسخرية ممزوجة بالأسى، هل هناك فعلا مخطط لترييف العاصمة العالمية للفوسفاط ..؟
حديقة الفردوس… من اللؤلؤة إلى العشوائية
من بين أبرز المظاهر التي أثارت الاستغراب، احتلال العربات المجرورة بالدواب قلب المدينة، بل وسط حديقة الفردوس تحديدا، التي تحولت إلى ساحة فوضى، تعج بروائح كريهة وضوضاء منبعثة من الباعة الجائلين، الغبار المتطاير من عربات الفحم، وأكياس “البوب كورن”، وبقايا المثلجات والمناديل، باتت مشهدا مألوفا داخل الحديقة، في غياب الوعي الجماعي بأهمية النظافة، وسلوك المواطنين الذين لا يكلفون أنفسهم عناء رمي مخلفاتهم في الحاويات.
شباب مهمّش وفضاءات مغلقة بثمن
وفي الوقت الذي يفترض أن تكون ملاعب القرب متنفسا للشباب ومحاربة لآفات الإدمان، صارت بواباتها موصدة في وجه أبناء المدينة، إلا لمن يملك 200 درهم للساعة، في مقابل ذلك مدن أخرى تتيح الولوج بالمجان، لذلك ليس غريبا أن يتحول فضاء الحديقة إلى ملعب عشوائي، تعلو فيه الصرخات والشتائم، مهددة راحة الأسر التي تلجأ إليها هربا من حرارة الجو.
فوضى الدراجات النارية والتسول المنظم
الفوضى لا تقف هنا، فالدراجات النارية حولت شوارع المدينة وحديقتها إلى مضمار للسرعة والضجيج، دون حسيب أو رقيب، أصوات مرعبة تتسبب في ذعر النساء الحوامل والرضع، وتقض مضجع العامل البسيط.
أما ظاهرة التسول بالأطفال الرضع، فقد أصبحت مهنة مربحة لتجار البشر، في ظل غياب تدخل حاسم من السلطات، خاصة وأن الغالبية العظمى من هؤلاء الأطفال لا تربطهم أية صلة قرابة بمن يستغلونهم.
من مدينة نظيفة إلى مزبلة مفتوحة.. من سرق نظافة خريبكة؟
كانت خريبكة، إلى عهد قريب، تُصنف من أنظف المدن المغربية، لكن الواقع اليوم يُكذب الماضي، فالأزقة والشوارع تحولت إلى فضاءات تغمرها النفايات، وتفوح منها الروائح الكريهة، هذا التدهور يطرح علامات استفهام كبيرة حول أداء الجهة المفوضة، ومسؤولية الشركات الخاصة التي أوكل إليها تدبير القطاع.
فهل تلتزم هذه الشركات فعلاً بدفتر التحملات؟ هل يتم تجديد عدد من حاويات الأزبال المهترئة؟ وهل تمت تهيئة مطارح النفايات وفق المعايير البيئية الوطنية والدولية؟ أين هي لجان المراقبة والتتبع؟ وأين دورها في الوقوف على مكامن الخلل؟
بل أكثر من ذلك، لماذا تغيب حملات التوعية البيئية؟ ولماذا لا يتم إشراك المجتمع المدني والساكنة في مواجهة هذا الوضع المتردي، كما تفعل العديد من المدن المغربية؟ أسئلة مشروعة تنتظر أجوبة مسؤولة، في وقت تعيش فيه خريبكة واحدة من أسوأ فتراتها على مستوى النظافة والبيئة.
الملك العمومي.. بين المقاهي والعربات
رغم الحملات الموسمية لتحرير الملك العمومي، لا تزال الأرصفة محتلة بالكامل من طرف المقاهي والمحلات التجارية، مما يدفع المواطنين لمشاركة السيارات نفس المسالك، شوارع مثل محمد السادس، مولاي يوسف، ومجمع الفردوس، تحوّلت إلى نقاط سوداء تُلغي حق الراجل في الرصيف.
عشوائية عمرانية وتغيير ملامح المدينة
الزحف العمراني غير المضبوط، خاصة في الحي الأوروبي الذي كان يعد من الأحياء الراقية، شوّه الطابع المعماري للمدينة، بعدما تحول الحي إلى تجمع للبنايات التجارية، وفي أحياء أخرى، تُثبت لاقطات الإرسال الهوائية خلسة، ليلاً، دون احترام لرفض الساكنة أو مراعاة لمخاطرها الصحية.
عطش يطرق أبواب المدينة
مظاهر “الترييف” لم تستثنِ حتى الماء، فمشهد الطوابير الطويلة أمام الآبار بمداخل المدينة، لجلب مياه الشرب في قنينات كبيرة، لم يعد استثناء، بل تحول إلى عادة يومية في ظل الانقطاعات المتكررة للماء الصالح للشرب.
السقوط الرياضي.. آخر تجليات التراجع
ولعل من أبرز تجليات هذا التراجع، سقوط نادي أولمبيك خريبكة، فريق القرن، إلى قسم الهواة، الفريق الذي كان يستقبل الفرق الكبرى، سيجوب هذا الموسم الأسواق والجماعات القروية لإجراء مبارياته. سقوط رياضي يوازي الانهيار التدريجي للهوية الحضرية لمدينة كان اسمها يقترن دائمًا بالمجد، والنظافة، والتنظيم.
إن ما يحدث بخريبكة ليس مجرد فوضى عابرة، بل إشارات إنذار تستوجب وقفة حقيقية من كل الفاعلين السلطات، المنتخبين، والمجتمع المدني، فإما أن تحافظ المدينة على طابعها الحضري والرمزي، أو أن تترك نهبًا للترييف والعشوائية، لتفقد ما تبقى من بريقها وتاريخها.
Copyright © 2024