بقلم: عصام أمكار
في زمن تتعالى فيه الأصوات مطالبة بربط المسؤولية بالمحاسبة، يبرز اسم سعيد أمزازي كإحدى التجارب الإدارية الرائدة في مغرب اليوم، تجربة لا تستمد شرعيتها من الشعارات أو الوعود، بل من الفعل الميداني والنتائج الملموسة . فحينما حطّ رحاله على رأس ولاية جهة سوس ماسة، لم يكن مجرد انتقال بروتوكولي لشخص قادم من عالم التعليم العالي إلى الإدارة الترابية، بل كان ذلك بداية لتحول نوعي في تدبير الشأن العام المحلي، ارتكز على مقاربة قوامها القرب، والنجاعة، والابتكار .
لم يكن من السهل على رجل قادم من الجامعة، محمّل بخبرات معرفية ورؤية علمية صارمة، أن ينخرط بسلاسة في دهاليز الإدارة الترابية، حيث تشابك المصالح وتعدد المتدخلين وتفاوت الإيقاعات، لكن أمزازي سرعان ما بصم على أسلوب خاص به، زاوج فيه بين الانضباط المؤسساتي والجرأة، وبين الحكمة والتواصل، فقد استطاع خلال سنة ونصف فقط أن يحول ولاية سوس ماسة إلى ورش مفتوح على مختلف الواجهات، بشهادة مختلف الفاعلين، من سلطات منتخبة، إلى مجتمع مدني، إلى ساكنة لمست تحولا حقيقيا في علاقتها مع الإدارة، حتى أن رئيس الجهة وصفه في أحد اللقاءات بأنه أحسن والي في المغرب .
التحول الذي قاده أمزازي لم يكن فقط على مستوى المخرجات، بل أيضا على مستوى الذهنيات؛ فقد استطاع أن يعيد الاعتبار لصورة رجل السلطة، لا كفاعل سلطوي فوقي، بل كوسيط اجتماعي، يصغي قبل أن يقرر، يواكب قبل أن يراقب، ويوجّه دون أن يُقصي، هذا التحول في الأداء والتمثّل ساهم في ترسيخ ثقة جديدة بين المواطن والمؤسسة، وهي ثقة أصبحت اليوم رأسمالًا
لا ماديًا يشكل الأساس لأي مشروع تنموي حقيقي .
وإذا كانت سنوات ما بعد جائحة كورونا قد أبانت عن حجم التحديات التي تواجه الجهات، فإن تدبير سعيد أمزازي لتلك التحديات أظهر فاعلية غير معهودة، إذ لم يكتف بإدارة الأزمات، بل حوّلها إلى فرص لإعادة ترتيب الأولويات، وتثبيت مقاربة الاستباق بدل الارتجال، والانفتاح على كفاءات شابة جديدة بدل الانغلاق على دوائر تقليدية، إن الحركية التي أضفاها على دواليب الولاية لم تكن نتاج قرارات فجائية، بل هي حصيلة رؤية تراكمية تؤمن بأن التغيير يبدأ من التفاصيل الصغيرة، وأن الإنصات الحقيقي هو السبيل الأنجع لأي إصلاح .
ولعل ما يميز أسلوب الوالي أمزازي هو قدرته على نسج علاقات تواصلية دائمة مع مختلف الفاعلين، داخل الجهة وخارجها، فهو حاضر في اللقاءات الميدانية، مبادر في الملفات الكبرى، ومتابع لأدق التفاصيل، دون ضجيج إعلامي أو استعراض أجوف، هذا الحضور الهادئ والفاعل منحه احترامًا واسعًا، ليس فقط في صفوف الأطر الإدارية، بل حتى لدى خصومه الذين باتوا يعترفون له بكفاءة استثنائية قلّ نظيرها .
ولم يكن هذا المسار مفروشًا بالورود، فقد واجه الرجل محطات صعبة، ومقاومات متعددة الأوجه، لكن ما ساعده على تجاوزها هو إيمانه العميق بأن خدمة الوطن لا تحتمل التأخير، وأن زمن التغيير الحقيقي يتطلب رجالًا يمتلكون الشجاعة الفكرية قبل الجرأة الإدارية، وهكذا تحوّل وجوده على رأس الولاية إلى قيمة مضافة حقيقية، تعكس كيف يمكن للجامعة أن تفرز نموذجًا جديدًا في القيادة الترابية، قائمًا على الرؤية، والكفاءة، والحس الوطني .
إن سعيد أمزازي لم يأت ليملأ منصبًا تنفيذيا فحسب، بل جاء ليعيد إلى الجهة بعضًا من مكانتها الرمزية، ويمنحها دفعة جديدة نحو المستقبل، فمن خلال مبادراته غير المسبوقة، وخطابه الواقعي، وسلوكه المتزن، استطاع أن يشيّد جسورًا بين الإدارة والمواطن، وبين المركز والجهة، وبين الحاضر والمستقبل. وهذه الإنجازات ليست أرقامًا في تقارير، بل ملامح تغيير يلمسه الناس في حياتهم اليومية، في ثقتهم بالمسار، وفي اقتناعهم بأن المسؤول العمومي قد يكون بالفعل خادمًا للصالح العام، لا مجرد ممثل للدولة المركزية .
ومهما يكن من تقييم، فإن تجربة سعيد أمزازي في سوس ماسة تصلح اليوم لأن تُدرَّس كنموذج مختلف في ممارسة السلطة؛ نموذج ينتمي إلى مدرسة متفردة في الإدارة المغربية، مدرسة لا تنطلق من الحسابات الضيقة، بل من الرؤية البعيدة، ولا تسعى إلى التصفيق، بل إلى البناء، ومن هذا المنطلق يمكن القول إن مسؤولية أمزازي على رأس ولاية سوس ماسة لن تكون مجرد لحظة عابرة، بل محطة مؤسسة لمرحلة جديدة من التدبير الجهوي، قوامها الإنجاز، والوفاء للثوابت، والانحياز للمواطن .
فإذا كان البعض يقيس النجاح بعدد الظهور أو حجم الأضواء، فإن أمزازي اختار طريقًا آخر : أن ينجز بصمت، وأن يبني بثبات، وأن يترك للناس أن يحكموا… ومن حكم الناس أنه والي الإنجازات، حقًا وصدقًا .
Copyright © 2024