انتصار العقل والديمقراطية .. المصادقة على مشروع قانون المجلس الوطني للصحافة لحظة لاختبار صدق النيات

✍ إدريس شحتان: رئيس الجمعية الوطنية للإعلام والناشرين
وأخيرا بعد اجتماع لجنة التعليم والثقافة والاتصال، الذي انطلق من الساعة السابعة والنصف من مساء يوم الاثنين لينتهي حوالي الساعة الثانية صباحا من يوم الثلاثاء، صوتت الأغلبية على مشروع قانون إعادة تنظيم المجلس الوطني للصحافة، وقامت الحكومة في شخص وزير الشباب والثقافة والتواصل بقبول 45 تعديل من أصل 249 قدمها البرلمانيين.
في خضم الضجيج الذي عمّ الساحة منذ الإعلان عن تقديم مشروع قانون التنظيم الذاتي لمهنة الصحافة، وبين موجات متلاطمة من الخطاب الانفعالي والمزايدات، لم يكن من السهل تصوّر أن العقل سينتصر، أو أن صوت المؤسسات سيتغلّب على فوضى التشكيك. لكن، في لحظة فارقة، وبفعل يقظة وطنية ناضجة، انتصرت الديمقراطية، لا بوصفها مجرد آلية اقتراع أو لعبة أرقام، بل باعتبارها تعبيرًا عن التوافق الاجتماعي حول قيم العقل، والعدالة، والمصلحة العامة.
لقد جرى تشويش كثيف على مبادرة إصلاحية سعت إلى إخراج أزمة المجلس الوطني للصحافة كتجربة فتية من عنق الزجاجة. سُفّهت مقترحات، وشُيطن فاعلون، واتُّهِمت المؤسسات في نواياها. كل هذا، باسم الدفاع عن مصالح ذاتية والخوف على فقدان مركز أو وظيفة في ظل وضع الستاتيكو. غير أن ما جرى في العمق لم يكن سوى معركة بين منهجين: أحدهما عقلاني، تدرّجي، يستند إلى القانون والمؤسسات والمستقبل ، والآخر شعبوي، انفعالي، يعزف على العواطف ويؤجّج المخاوف و يعيش على الماضي البئيس .
لقد نجحت المقاربة الديمقراطية في عبور هذه المرحلة الدقيقة، ليس لأنها كانت مثالية، ولكن لأنها قدّمت نفسها كإطار عقلاني لإدارة الخلاف، وكسياق قانوني لإخراج النقاش من دائرة التجاذب الأيديولوجي و الصراع على الكراسي إلى حقل التناظر الدستوري والمؤسساتي. كان الامتحان عسيرًا، لكن المؤشرات أظهرت أن المجتمع، بكل تلاوينه، قادر على مقاومة الموجة الشعبوية والمصالح الانتهازية إذا أتيحت له قنوات تعبير حقيقية، وفضاءات نقاش محمية، وإرادة سياسية صلبة تحمي الخيار العقلاني من الانهيار.
من هنا، فإن المرحلة الحالية تطرح تحديًا أكبر: لم تعد المسألة متعلّقة بإقناع الرأي العام أو صدّ الموجات التشويشية، بل بتنفيذ القانون ، وتجسيد المقتضيات الدستورية والمؤسساتية على الأرض وتنفيذ المشاريع . لقد مررنا من لحظة الدفاع إلى لحظة الفعل. وهو انتقال يقتضي أكثر من الانتصار الرمزي؛ يحتاج إلى عمل دؤوب، وتنسيق واسع، وصدق النيات. ذلك أن القانون 26.25 يمثل أداة أساسية لسد الفراغ المؤسساتي الذي عرفه قطاع الصحافة، ولتعزيز آليات التنظيم الذاتي للمهنة، بما يضمن استقلاليتها ويحصّنها من الانزلاقات والممارسات المسيئة التي تشهدها الساحة الإعلامية ، خاصة من قبل الدخلاء والنصابة والمتطفلين عبر منصات التواصل الاجتماعي.
ففي كل التجارب الديمقراطية، لا يكفي أن تُسنّ القوانين، بل يجب أن تتحوّل إلى سلوك يومي، وإلى ممارسات إدارية وقضائية وتعليمية وإعلامية تستبطن روح الإصلاح. وهذا لا يتأتى إلا بتغيير في الثقافة السياسية، وفي أخلاقيات المرفق العام، وفي نوع الخطاب الذي ينتجه الإعلام ويُروَّج في المنصات الرقمية.
المطلوب اليوم أن تترجم السلطة التشريعية والتنفيذية والقضائية هذا الانتصار الرمزي إلى آليات ملموسة. أن تنفذ القوانين بشجاعة، أن تحمي الحقوق دون انتقائية، وأن تضرب على يد كل من يستهين بسلطة المؤسسات أو يحاول الالتفاف لترسيخ الصرح الديمقراطي بقوة سيادة القانون.
وفي المقابل، يقع على عاتق النخب الفكرية، الإعلامية والمجتمع المدني، مهمة مواكبة هذا الانتقال من الفعل السياسي إلى الفعل الثقافي. فالمعركة ضد التشويش ليست فقط تقنية أو قانونية، بل هي معركة ضد بنية ذهنية تخشى العقل والتطور ، وتُعادِي الحُجّة، وتستسيغ الفوضى والهمزة هباسم الحرية .
إن المصادقة على مشروع قانوني لتنظيم المجلس الوطني للصحافة والخروج من دائرة المؤقت والاستثنائي إلى الدورة القانونية التي صادق عليها البرلمان وساندها التيار المجتمعي الواسع، لا يجب أن يُقرأ كإنجاز نهائي، بل كعتبة أولى في مسار طويل نحو إصلاح أحول المهنة والمهنيين والارتقاء بالممارسة الصحافية لتساهم في ترسيخ دولة القانون والمؤسسات. لقد أظهرت الأزمة الأخيرة أن المجتمع يمتلك مناعة مدنية، وأن النخب السياسية والهيئات الإعلامية الوازنة تمتلك حسا لتطوير مستقبل المهنة بالمغرب.
فلتُخلَص النيات إذن. ولتتحرّك الأجهزة والمؤسسات والفاعلون بثقة ومسؤولية. فقد ولى زمن المجاملة والمصالح الريعية، وحان وقت الوفاء للعقل، للقانون، وللوطن. نعتبر في الجمعية الوطنية للإعلام والناشرين لحظة الإصلاح الراهنة يجب أن تُستثمر لترسيخ نموذج اقتصادي متماسك في مجال الصحافة، لأنه لا وجود لصحافي قوي ومستقل خارج وجود مقاولة إعلامية مهنية ومستقلة…هذا هو الأهم لي فاهم لي مافهمش هرب عليه التران….طريق السلامة.

Copyright © 2024