بقلم الأستاذ: المعانيد الشرقي ناجي
أستاذ باحث في علم الاجتماع والفلسفة ( المغرب )
يطيب لي في هذا المساء أن أتقاسم معكم لحظة تفكير وتأمل من خلال العقل الذي يحلل ويقارن ويقارب ويقيس ويضع النتائج، في موضوع لطاما كان ولا زال محط نقاش وحوار مستمرين، وأسال الكثير من المداد، و يستحق منا كما من غيرنا إيلاءه العناية الخاصة. ونزولا عند رغبة عديد الزملاء في إثارة ونبش مثل هذه القضايا المثيرة للجدل ومنفلتة من قبضة أصابع اليد. يتعلق الأمر بموضوع الفلسفة في علاقتها بالعلم المعاصر، فحينما نمعن النظر في طبيعة العلاقة بينهما، يستوقفنا الحديث عن تحديد كل من مهمة الفلسفة وماهيتها ومهمة العلم. وهذا التحديد، لن يكون مجديا إلا بالوقوف عند دلالة كل منهما.
فالفلسفة منذ نشأتها كانت بحثا في الوجود بشكل عام والوجود الإنساني بشكل خاص، كما أن للفلسفة ثلاثة مباحث، الوجود، المعرفة، ثم القيم، ومنها الأخلاقية والجمالية. ومن بين ما تهتم به الفلسفة السؤال.
فإذا رجعنا إلى الفلسفة اليونانية الكلاسيكية، نجد السؤال السقراطي الذي لازال يتردد صداه إلى يومنا هذا ( إعرف نفسك بنفسك أيها الإنسان ؟). فقد اعتمد سقراط منهجا توليديا وهو يطرح أسئلته الفحصية على محاوريه بغاية إنتاج المعرفة الفلسفية من خلال استجلاء الحقيقة بإعمال العقل في قضايا وجودية مختلفة، لذلك، كانت أسئلته تتشعب وتطول.
إن الفلسفة عبر تاريخها الطويل و من خلال الفلاسفة و ما خلفوا من متون فلسفية و أنساق حَدّدَت أهميتَها ومكانتها الهامة بالنسبة للإنسان بما لا يدع مجالا للشك والتشكيك، حيث يقول ديكارت في هذا الصدد: ” وكنت أبغي بعد ذلك أن أوجه النظر إلى منفعة الفلسفة، وأن أبين أنها ما دامت تهتم بكل ما ينبغي للذهن الإنساني أن يعرفه، فيلزَمُنا أن نعتقد أنها وحدها تميزنا عن الأقوام المتوحشين والهمجيين، إن ثقافة الشعوب والأمم، لم تعرف تطورا إلا بعد شيوع التفلسف فيها.” فلما كانت الفلسفة قد أخرجتنا من دائرة الهمج و التوحش عبر آلية التفكير، فقد أنجبت من خيرة أبنائها العلم، واعتبرته إبنها البار الذي اتخذ الفكر طريقة له في الصنع والإبتكار، ما يجعل الفلسفة والعلم وجهين لعملة واحدة وهي الفكر.
فإذا كانت الفلسفة تهتم بطرح السؤال وإثارة الإشكالات على كثرتها، فإن العلم يهتم بالواقع وما يرتبط بمنفعة وحاجات الإنسان المباشرة، وإسعاده ماديا، ولكل منهما منهجه الخاص، فكلما نغادر أرض العلم نلج عالم الفلسفة الفسيح، وبينهما مناطق التخوم والحدود، وهي ما نسميه في نظرية المعرفة بالإبستيمولوجيا؛ أي الدراسة النقدية للمعرفة في أصولها ومبادئها ونتائجها. لذلك، فالعلاقة بين الفلسفة والعلم علاقة تكامل وتناغم. لكن لكي نتبين ذلك بوضوح تام، نطرح التساؤلات التالية:
* ما الفلسفة؟ وما العلم؟ وما العلاقة بينهما؟
* هل يمكننا إلغاء الفلسفة في ظل تطور العلم وانفصاله عنها؟ بتعبير آخر، هل نحن في حاجة إلى الفلسفة اليوم؟
* ما الذي يعطي للفلسفة أهميتها و مكانتها في الوقت الراهن؟
إن التحديد الاشتقاقي لكلمة فلسفة يقودنا إلى مفهوم فيلوصوفيا، حيث؛ إن فيلو تعني محبة، وصوفيا تعني الحكمة، لتجمع الكلمة في معنى واحد هو: محبة الحكمة. والمعنى الاصطلاحي لكلمة فلسفة يتحدد بتعاريف لا حصر لها، بحيث إن لكل فيلسوف تعريفَه الخاص به، لكننا سنقتصر على بعض التعاريف لتقريب المعنى للمتلقي. فالفلسفة كما عرفها سقراط هي البحث العقليّ عن حقائق الأشياء المؤدّي إلى الخير و إنّها تبحث عن الكائنات الطبيعيّة وجمال نظامها ومبادئها و علّتها الأولى. ” أما أرسطو فعرف الفلسفة بأنها علم الوجود بما هو موجود. وهي أيضا، علم بالكليات. أما ديكارت فيعرفها بأنها شجرة جذورها الميتافيزيقا، وجذعها العلم الطبيعي وباقي الأغصان المتفرعة عن هذا الجذع، هي الميكانيكا والأخلاق والطب..
أما إيمانويل كانط فيعرف الفلسفة أنها علم العلاقة بين كل المعارف و الغايات العظمى للعقل البشري.
و يتحدد العلم في اللغة بأنه عكس الجهل، وهو إدراك الأمور كما هي بشكل جازم.
أما في الاصطلاح، العِلم هو النشاط الإنساني الذي يهدف إلى زيادة قُدرة الإنسان في السيطرة على الطبيعة، والكشف عن القوانين التي تحكمها ويدرس ظواهرها ويحدد العلاقات الثابتة بينها ويعمل على التنبؤ بحدوثها مستقبلا. ويصل العلم إلى وضع النظريات العلمية، إما على أساس تجريبي أمبريقي، أو عقلاني حديث أو أكسيومي معاصر. كما يعمل العلم على ضبط شروط النجاح العلمي من خلال البرهان والاستدلال أو التجربة والتجريب العلميين، و يُخضع العلم النظريات إلى معاييرها العلمية.
وتبقى العلاقة بين العلم والفلسفة علاقة تكاملية على الدوام، بالرغم من بعض الخطابات التي تريد إلغاء الفلسفة بالنيل منها وشيطنتها على حساب العلم، لما قدم من منافع مادية ونتائج يقينية أبهرت الإنسان المعاصر، و هذا الرأي المتطرف تجاه الفلسفة مصدره بالأساس، الجهل بمباحثها الواسعة ومضامينها المعرفية المتشابكة والصعبة المراس.
سوف لن أنصب نفسي مدافعا عن الفلسفة بارتداء عباءة المحامي، فالفلسفة تبلغ من العمر ملايينَ السنين ومن الشهرة ما تكفيها لتكون معروفة، ونظرا لساقيها الطويلتين تبدو شامخة تطل علينا برأسها مرتدية أسمالا جميلة تم نشلها على مقربة من الأرض من طرف المتحاملين عليها دون أن ينالوا منها سوى قطعةِ قُمَاش علقت بأيديهم، لكن النيل من الفلسفة يبقى عملا دون جدوى نظرا لشموخها و أصالتها و آلتها التي تتمثل في أورغانونها المنطق، والذي يعد آلة العقل.
العلم لا يفكر في الماضي، فهو يتجه برأسه نحو المستقبل على الدوام ولا يكثرت لما ينتج، فقد يبتكر ما يدمر الإنسان ويفتك به. لذلك يقال: إن العلم أعمى، ففي كثير من الأحيان تتدخل الفلسفة لمساءلة الجدوى والغاية من مبتكرات العلم، فتضع العلم ومنتجاته على سكة الأخلاق.
Copyright © 2024