
✍نزيه فرحات الفقير البودشيشي مريد سيدي منير بشارة العارفين
لقد بُنيت الطريقة القادرية البودشيشية، كسائر الطرق الصوفية، على سلسلة من الوصايا والشهادات التي ضمنت انتقال الأمانة التربوية عبر الأجيال. وهذا الانتقال لم يكن يومًا قرارًا فرديًا أو منحًا شخصيًا من شيخ لآخر، وإنما هو ثمرة اصطفاء رباني، وتجربة تربوية، وإجماع روحي وصوفي، تلتقي فيه شهادة الشيخ، وبشارة العارفين، واجتماع المريدين.
ومع ذلك، برز في الآونة الأخيرة خطاب لمقدم الطريقة تضمن إشارات واضحة إلى محاولة إعادة رسم تاريخ المشيخة بشكل يُضعف من مصداقية الوصية ويُهمّش مقام بعض الشيوخ الكبار، وعلى رأسهم سيدي الحاج عباس وسيدي جمال الدين رضي الله عنهما. وهذا يستوجب قراءة نقدية أكاديمية، تُفنّد المزاعم وتعيد التأكيد على الشرعية الروحية الأصيلة.
أولًا: بشارة سيدي الحاج عباس رضي الله عنه
منذ ولادة شيخنا سيدي منير حفظه الله، حملت شخصيته إشارات واضحة إلى مقام عالٍ. فقد أخذه والده سيدي جمال الدين إلى جده سيدي الحاج عباس، فلما رآه فرح به فرحًا عظيمًا وتبسم وقال لسيدي جمال الدين:
“لو أطال الله في عمري، لكنتُ مريدًا له، وتحت طوعه.”
وكذلك قال : رؤيته للنور الذي اخترقه ومنها الى قلب سيدي حمزة ثم من حمزة الى قلب سيدي جمال الدين رضي الله عنه وأرضاه ويمتعنا ومنه الى سيدي منير .
هذه الكلمات ليست مجرد تعبير وجداني، بل هي شهادة مبكرة من شيخ التربية في ذلك الزمان، أكدت أن السر مودع في هذا الوليد، وأنه سيكون صاحب شأن رباني.
ثانيًا: تتابع الوصية الشرعية
لم تنقطع الوصية في أي مرحلة:
• من سيدي الحاج عباس إلى سيدي حمزة،
• ومن سيدي حمزة إلى سيدي جمال الدين،
• ومن سيدي جمال الدين إلى سيدي منير.
وهذه الوصايا لم تكن معزولة، بل توافق عليها المشايخ المحيطون بهم، واحتضنها الفقراء، مما أعطاها قوة مضاعفة: قوة النص، وقوة الجماعة، وقوة البشارة.
ثالثًا: اجتماع الفقراء حول سيدي منير
القبول الشعبي والروحي من الفقراء هو من أهم معايير الشرعية الصوفية. لقد اجتمع الفقراء والمريدون على سيدي منير، وهذا الاجتماع لم يكن قسريًا ولا تنظيميًا، وإنما كان اندفاعًا طبيعيًا بفعل المحبة الصادقة والشعور الروحي بأنه هو حامل الأمانة. ومعلوم أن الصوفية يميزون بين من يلتف حوله الناس وبين من ينفرون عنه، فالقبول علامة من علامات الاصطفاء.
رابعًا: العرف الصوفي في المشيخة
من أصول الأدب الصوفي أن لا يظهر المريد بمشيخة في حياة شيخه، ولو كان مستعدًا لها، وذلك تواضعًا وصيانةً لحرمة السلسلة. فالمشيخة لا تُعلن إلا بعد انتقال الشيخ السابق، وهذا بالضبط ما وقع مع سيدي منير بعد انتقال والده سيدي جمال الدين قدس الله سره.
خامسًا: الفرق بين البركة والولاية
ينبغي التمييز بين:
• البركة: وهي مدد أو كرامة قد يمنحها الشيخ لمريده في موقف محدد، كدواء أو شفاء أو إغاثة. وهذه قد تزول أو تبقى، لكنها لا تعني أن المريد أصبح شيخًا.
• الولاية والمشيخة: وهي اصطفاء إلهي، ثم تزكية من الشيخ، ثم إجماع من الفقراء، وتؤكدها البشارة والوصية. وهذا ما تحقق لسيدي منير.
إذن فالقول إن الشيخ “أفرغ كل شيء” في شخص ما، إنما هو خلط بين مقام البركة ومقام المشيخة، ومحاولة لتسطيح مفهوم الولاية.
سادسًا: الكذب على سيدي حمزة رضي الله عنه
من بين المزاعم أن سيدي حمزة قال إنه “كبّ كل شيء” في أحدهم. وهذا لا يستقيم مع نهج العارفين؛ إذ إن سيدي حمزة نفسه يعلم أن الولاية ليست “إفراغًا”، وإنما هي اصطفاء من الله، ثم تربية ومجاهدة، ثم وصية شرعية. ولو كانت مجرد عملية إفراغ، لانتفى معنى التربية والجهاد والوصية، ولأصبح كل من يرافق شيخًا يومًا أو يومين أهلًا للمشيخة!
سابعًا: ضرب مصداقية سيدي جمال الدين رضي الله عنه
الخطاب الصادر لم يكتفِ بذكر مزاعم عن “الإفراغ”، بل عمد إلى التقليل من شأن سيدي جمال الدين، وجعله في مرتبة ثانوية، كأنه مجرد تابع لا موقع له في السلسلة. وهذا خطر بالغ؛ لأن سيدي جمال الدين هو الذي حمل الأمانة بعد سيدي حمزة، وهو الذي أوصلها إلى سيدي منير.
الطعن في مشيخته ليس مجرد إساءة شخصية، بل هو تقويض متعمد لشرعية الطريقة كلها، لأن السلسلة إذا انقطعت في حلقة واحدة، بدا وكأنها سلسلة مبتورة، وهذا ما يسعى إليه الخطاب المغرض.
ثامنًا: نقد الخطاب وتفنيده
من خلال التحليل يتضح أن الخطاب الصادر من المقدم:
• تجاهل شهادة سيدي الحاج عباس، وضرب مصداقية وصيته.
• ركّز فقط على سيدي حمزة، كأنه هو وحده حلقة السلسلة.
• قلل من شأن سيدي جمال الدين، محاولًا إظهاره وكأنه بلا دور مركزي.
• استعمل فكرة “الإفراغ” و”الكب” لتبرير مشيخة من لا سند له، مع أن هذا يناقض جوهر الولاية.
إن هذا الخطاب لا يمكن أن يُفهم إلا باعتباره محاولة ممنهجة لإعادة كتابة تاريخ الطريقة، وإسقاط شرعية الوصايا المتتابعة، والتشكيك في الأمانة الموروثة. وهذا من أخطر ما يمكن أن يواجه الطريقة، لأنه يفتح الباب أمام النزاعات الداخلية والتشويش الخارجي معًا.
خاتمة
إن سلسلة مشايخنا محفوظة بالوصايا، وبالبشارات، وبالإجماع الصوفي، ولن تنال منها الخطابات الملفقة. فالحق ظاهر، والباطل إلى زوال. وكما قال تعالى:
﴿يُرِيدُونَ لِيُطْفِئُوا نُورَ اللَّهِ بِأَفْوَاهِهِمْ وَاللَّهُ مُتِمُّ نُورِهِ وَلَوْ كَرِهَ الْكَافِرُونَ﴾.
فمن يشكك في بشارة سيدي الحاج عباس، أو وصية سيدي حمزة، أو مشيخة سيدي جمال الدين، إنما يشكك في الطريقة كلها. أما الفقراء الصادقون فقد اجتمعوا حول سيدي منير، حامل الأمانة وبشارة العارفين، وهذا هو البرهان القاطع على أن الطريق باقٍ، والسلسلة متصلة، والحق ناصع لا يُدحض.
Copyright © 2024